الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} قال عبد الله بن عباس: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية، وقال ابن جريج: نزلت في رجل فعل ذلك ولم يسم علياً ولا غيره، وقال ابن عباس أيضاً نزلت هذه الآية في علف الخيل، وقاله عبد الله بن بشر الغافقي وأبو ذر وأبو أمامة والأوزاعي وأبو الدرداء قالوا: هي في علف الخيل والمرتبطة في السبيل، وقال قتادة هذه الآية في المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير. قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والآية وإن كانت نزلت في علي رضي الله عنه، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولاً محكماً، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان المؤمنون يعملون بهذه الآية من قوله: {إن تبدوا الصدقات} [البقرة: 271] إلى قوله: {ولا هم يحزنون} [البقرة: 274] فلما نزلت براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها، وقد تقدم القول على نفي الخوف والحزن، والفاء في قوله: {فلهم} دخلت لما في {الذين} من الإبهام، فهو يشبه بإبهامه الإبهام الذي في الشرط. فحسنت الفاء في جوابه كما تحسن في الشرط، وإنما يوجد الشبه إذا كان الذي موصولاً بفعل وإذا لم يدخل على {الذي} عامل يغير معناه، فإن قلت: الذي أبوه زيد هو عمرو فلا تحسن الفاء في قولك فهو، بل تلبس المعنى، وإذا قلت ليت الذي جاءك جاءني لم يكن للفاء مدخل في المعنى، وهذه الفاء المذكورة إنما تجيء مؤكدة للمعنى، وقد يستغنى عنها إذا لم يقصد التأكيد كقوله بعد: {لا يقومون} وقوله عز وجل: {الذين يأكلون الربا} الآية، {الربا} هوالزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان، وغالبة ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها: آكل ربا فبتجوز وتشبيه، والربا من ذوات الواو، وتثنيته ربوان عند سيبويه، ويكتب الألف. قال الكوفيون: يكتب ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله. وكذلك يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم، نحو ضحى، فإن كان مفتوحاً نحو صفا فكما قال البصري. ومعنى هذه الآية: الذين يكسبون الربا ويفعلونه، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنها دالة على الجشع، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله: {الذي يأكلون}، وقال ابن عباس رضي الله عنه مجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد: معنى قوله: {لا يقومون} من قبورهم في البعث يوم القيامة، قال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنفة، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جمع المحشر، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم». قال القاضي أبو محمد: وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه، مخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره، قد جن هذا، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله: [الطويل] وَتُصْبِحُ مِنْ غِبّ السُّرى وَكَأَنَّما *** أَلَم بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَق لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل {ويتخبطه} «يتفعله» من خبط يخبط كما تقول: تملكه وتعبده وتحمله. و{المس} الجنون، وكذلك الأولق والألس والرود، وقوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} معناه عند جميع المتأولين في الكفار، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها. والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل {فله ما سلف} ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية، ثم جزم تعالى الخير في قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وقال بعض العلماء في قوله: {وأحل الله البيع} هذا من عموم القرآن، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه، وقال بعضهم: هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم، والقول الأول عندي أصح، قال جعفر بن محمد الصادق: حرم الله الربا ليتقارض الناس. وقال بعض العلماء: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس. وسقطت علامة التأنيث في قوله: {فمن جاءه} لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ، وقرأ الحسن «فمن جاءته» بإثبات العلامة، وقوله: {فله ما سلف} أي من الربا لاتباعه عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك، و{سلف} معناه تقدم في الزمن وانقضى. وفي قوله تعالى: {وأمره إلى الله} أربع تأويلات: أحدها أن الضمير عائد على الربا بمعنى: وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك. الثاني أن يكون الضمير عائداً على {ما سلف}. أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه. والثالث أن يكون الضمير عائداً على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا. والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير. كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء. وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته، ويجيء الأمر هاهنا ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره، وقوله تعالى: {ومن عاد} يعني إلى فعل الربا والقول {إنما البيع مثل الربا} وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاصٍ فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة. كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا على التأبيد الحقيقي.
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} {يمحق} معناه: ينقص ويذهب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه، {ويربي الصدقات} معناه ينميها ويزيد ثوابها تضاعفاً، تقول: ربت الصدقة وأرباها الله تعالى ورباها وذلك هو التضعيف لمن يشاء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله، أو فلوه، حتى يجيء يوم القيامة وأن اللقمة لعلى قدر أحد». قال القاضي أبو محمد: وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن الزبير: «يُمحِّق الله» بضم الياء وكسر الحاء مشددة، «ويرَبّي» بفتح الراء وشد الباء، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك. وقوله تعالى: {والله لا يحب كل كفار أثيم} يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع {إنما البيع مثل الربا} ووصف الكفار ب {أثيم}، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان، وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض، قاله ابن فورك قال ومعنى قوله: {والله لا يحب} أي لا يحب الكفار الأثيم. قال القاضي أبو محمد: محسناً صالحاً بل يريده مسيئاً فاجراً، ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم. وهذه تأويلات مستكرهة، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه، وأما الثاني فغير صحيح المعنى، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به، وحرص على حفظه، وتظهر دلائل ذلك، والله تعالى يريد وجود الكافر على ما هو عليه، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه في الشاهد، وتلك المزية موجودة للمؤمن. ولما انقضى ذكرهم عقب بذكر ضدهم ليبين ما بين الحالين. فقال {إن الذين آمنوا} الآية، وقد تقدم تفسير مثل ألفاظ هذه الآية، وخص {الصلاة} و{الزكاة} بالذكر وقد تضمنهما عمل {الصالحات} تشريفاً لهما، وتنبيهاً على قدرهما، إذ هما رأس الأعمال الصلاة في أعمال البدن، والزكاة في أعمال المال.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} سبب هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيراً في ذلك الوقت، وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح: «ألا كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد طالب»، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته، فيستفيض حينئذ في الناس، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطاً، منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لم يعطه، وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية، كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية. وذكر النقاش رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسليمن وعليكم ما عليهم، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني المغيرة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة لا تعطي شيئاً فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت، هذا سبب الآية على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم. فمعنى الآية، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه. وقوله: {إن كنتم مؤمنين} شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلاً فافعل كذا، وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال: {إن} في هذه الآية بمعنى إذ. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مردود لا يعرف في اللغة، وقال ابن فورك: يحتمل أنه يريد {يا أيها الذين آمنوا} بمن قبل محمد من الأنبياء، {ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} بمحمد، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا وهذا مردود بما روي في سبب الآية، ثم توعدهم تعالى إن لم يذروا الربا بحرب من الله ومن رسوله وأمته، والحرب داعية القتل، وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقال ابن عباس أيضاً: من كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستنيبه، فإن نزع والإ ضرب عنقه، وقال قتادة: أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجاً أينما ثقفوا، ثم ردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم، وقال لهم: {لا تَظلمون} في أخذ الربا {ولا تُظلمون} في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم، فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل، لأن مطل الغني ظلم، كما قال صلى الله عليه وسلم. فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا. وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار على كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر، فقال كعب: نعم يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر: قم فاقضه، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات، وقرأ الحسن «ما بقِيْ» بكسر القاف وإسكان الياء، وهذا كما قال جرير: [البسيط] هو الخليفةُ فارضوْا ما رَضَي لكُمُ *** ماضي العَزِيمَةِ ما في حُكْمِهِ جَنَفُ ووجهها أنه شبه الياء بالألف، فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لم تصل هنا إلى الياء، وفي هذا نظر، وقرأ أبو السمال من «الرّبُوْ» بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو، وقال أبو الفتح: شذ هذا الحرف في أمرين: أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازماً، والآخر وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل، نحو يغزو ويدعو وأما ذو الطائية بمعنى الذي فشاذة جداً، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع، فيقول رأيت ذا قام، ووجه القراءة أنه فخم الألف انتحاء بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم، الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي: «فأذنَوا» مقصورة مفتوحة الذال، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «فآذِنوا» ممدودة مكسورة الذال. قال سيبويه: آذنت أعلمت، وأذنت ناديت وصوت بالإعلام قال: وبعض يجري آذنت مجرى أذنت، قال أبو علي: من قال: «فأذنوا» فقصر، معناه فاعلموا الحرب من الله، قال ابن عباس وغيره من المفسرين: معناه فاستيقنوا الحرب من الله تعالى. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه وهي عندي من الإذن، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه، فكأنه قال لهم فقرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله، ملزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون بها، إذ هم الآذنون بها وفيها، ويندرج في هذا المعنى الذي ذكرته علمهم بأنهم حرب وتيقنهم لذلك، قال أبو علي: ومن قرأ «فآذنوا» فمد، فتقديره فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول محذوف، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى: {فقل آذنتكم على سواء} [الأنبياء: 109] وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، قال: ففي إعلامهم، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم، فقراءة المد أرجح، لأنها أبلغ وآكد قال الطبري: قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والقراءتان عندي سواء لأن المخاطب في الآية محضور بأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا، فإن قيل لهم: «فأذنوا» فقد عمهم الأمر، وإن قيل لهم: «فآذنوا» بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضاً، وكأن هذه القراءة تقتضي فسحاً لهم في الارتياء والتثبيت أي فأعلموا نفوسكم هذا ثم انظروا في الأرجح لكم، ترك الربا أو الحرب، وقرأ جميع القراء «لا تَظلمون» بفتح التاء و«لا تُظلمون» بضمها وقد مضى تفسيره. وروى المفضل عن عاصم: لا «تُظلمون» بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية. قال أبو علي: وتترجح قراءة الجماعة فإنها تناسب قوله {فإن تبتم} في إسناد الفعلين إلى الفاعل فيجي «تظلمون» بفتح التاء أشكل بما قبله.
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر. قال المهدوي: وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين، وحكى مكي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام. قال القاضي أبو محمد: فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ، وإلا فليس بنسخ، و«العسرة» ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة، والنظرة والتأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع {ذو عسرة} ب {كان} التامة التي هي بمعنى وجد وحدث. هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة، وأن العدم طارئ حادث يلزم أن يثبت. وقال بعض الكوفيين، حكاه الطبري: بل هي {كان} الناقصة والخبر محذوف، تقديره {وإن كان} من غرمائكم {ذو عسرة} وارتفع قوله: {فنظرة} على خبر ابتداء مقدر، تقديره فالواجب نظرة، أو فالحكم نظرة. قال الطبري: وفي مصحف أبي بن كعب: {وإن كان ذو عسرة} على معنى وإن كان المطلوب، وقرأ الأعمش «وإن كان معسراً فنظرة». قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: وكذلك في مصحف أبي بن كعب، قال مكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ {وإن كان ذو عسرة} بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين. قال القاضي أبو محمد: وهذا غير لازم، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان، «فإن كان» بالفاء {ذو عسرة} بالواو، وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن: «فنظْرة» بسكون الظاء، وكذلك قرأ الضحاك، وهي على تسكين الظاء من نظرة، وهي لغة تميمية، وهم الذين يقولون: كرم زيد بمعنى كرم، ويقولون، كبد من كبد، وكتف في كتف، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة» على وزن فاعلة، وقال الزجّاج: هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى: {ليس لوقعتها كاذبة} [الواقعة: 2] وكقوله تعالى: {تظن أن يفعل بها فاقرة} [القيامة: 25]، وكخائنة الأعين وغيره، وقرأ نافع وحده «ميسُرة» بضم السين، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسَرة» بفتح السين على وزن مفعلة، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب، لأن مفعلة بضم العين قليل. قال أبو علي: قد قالوا: مسربة ومشربة، ولكن مفعلة بفتح العين أكثر في كلامهم، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضاً ومجاهد: «فناظره إلى ميسُره» على الأمر في «ناظره» وجعلا الهاء ضمير الغريم، وضما السين من «ميسُره» وكسر الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم، فأما ناظره ففاعله من التأخير، كما تقول: سامحه، وأما ميسر فشاذ، قال سيبويه: ليس في الكلام مفعل، قال أبو علي يريد في الآحاد، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد: [الرمل] أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنّي مَأْلُكاً *** أَنَّه قَدْ طالَ حَبْسي وانتظار وقول جميل: [الطويل] بثين الزمي- لا- إنَّ- لا- إنْ لزمته *** على كثرةِ الواشين أيّ معون فالأول جمع مالكه، والآخر جمع معونة، وقال ابن جني: إن عدياً أراد مالكة فحذف، وكذلك جميل أراد أي معونة، وكذلك قول الآخر: [الراجز] «ليومِ روعٍ أو فِعال مكْرَمِ» *** «أرادَ مَكْرُمَة»، فحذف قال: ويحتمل أن تكون جموعاً كما قال أبو علي. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فإن كان ميسر جمع ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة، وإن كان قارئه أراد به الإفراد فذلك شاذ، وقد خطأه بعض الناس، وكلام سيبويه يرده، واختلف أهل العلم: هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة: واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال؟ فقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصة، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة، بل تؤدى إلى أهلها، وكأن هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم والصريح، فالحكم هي النظرة ضرورة، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الديْن ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة، فسره الضحاك. وقوله تعالى: {وأن تصدقوا} ابتداء وخبره {خير}، وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجلع ذلك خيراً من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس. وقال الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالاً لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته، بل هي كقول جمهور الناس، وليس في الآية مدخل للغني، وقرأ جمهور القراء: «تصَّدقوا» بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا. وقرأ عاصم «وأن تصْدقوا» بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن تصدقوا» بفك الإدغام. وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال: كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة. وقال ابن عباس: آخر ما نزل آية الربا. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل، لأن الجمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم، قال: آخر آية قوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين، وروي أن قوله عز وجل: {واتقوا} نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال، ثم لم ينزل بعدها شيء، وروي بثلاث ليال، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه قال عليه السلام اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية، من البقرة. وقوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} إلى آخر الآية، وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان، و{يوماً} منصوب على المفعول لا على الظرف. وقرأ أبو عمرو بن العلاء «تَرجِعون» بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ باقي السبعة «تُرجعَون» بضم التاء وفتح الجيم، فمثل قراءة أبي عمرو {إن إلينا إيابهم} [الغاشية: 25] ومثل قراءة الجماعة {ثم ردوا إلى الله} [الأنعام: 62] {ولئن رددت إلى ربي} [الكهف: 36] المخاطبة في القراءتين بالتاء على جهة المبالغة في الوعظ والتحذير، وقرأ الحسن «يرْجعون» بالياء على معنى يرجع جميع الناس. قال ابن جني كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تتفطر له القلوب. فقال لهم: {واتقوا يوماً}، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقاً بهم، وقرأ أبي بن كعب «يوماً تُردون» بضم التاء، وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية، وقال قوم هو يوم الموت، والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية، وفي قوله: {إلى الله} مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه، وقوله {وهم} رد على معنى كل نفس لا على اللفظ إلا على قراءة الحسن «يرجعون»، فقوله: {وهم} رد على ضمير الجماعة في «يرجعون»، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان. وهذا رد على الجبرية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} قال ابن عباس رضي الله عنه نزلت هذه الآية في السلم خاصة. قال القاضي أبو محمد: معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعاً، وبين تعالى بقوله: {بدين} ما في قوله: {تداينتم} من الاشتراك، إذ قد يقال في كلام العرب: تداينوا بمعنى جازى بعضهم بعضاً. ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن المجهلة لا تجوز، فكأن الآية رفضتها، وإذا لم تكن تسمية وحد فليس أجل، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها فرض بهذه الآية، وذهب الربيع إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً} [البقرة: 283] وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله: {فإن أمن} ناسخ لأمره بالكتب، وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري، وقال جمهور العلماء: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقياً فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق، وقال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة، وهذا هو القول الصحيح، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس، ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان فقال إن وقع ذلك {فليؤد} [البقرة: 283] الآية، فهذه وصية للذين عليهم الديون، ولم يجزم تعالى الأمر نصاً بأن لا يكتب إذا وقع الائتمان، وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب فرض واجب وطول في الاحتجاج، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك. واختلف الناس في قوله تعالى: {وليكتب بينكم} فقال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقال الشعبي وعطاء أيضاً: إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب، وقال السدي: هو واجب مع الفراغ، وقوله تعالى: {بالعدل} معناه بالحق والمعدلة، والباء متعلقة بقوله تعالى: {وليكتب}، وليست متعلقة ب {كاتب} لأنه كان يلزم أن لا كتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها، أما أن المنتصبين لكتبها لا يتجوز للولاة ما أن يتركوهم إلا عدولاً مرضيين، وقال مالك رحمه الله: لا يكتب الوثائق من الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} ثم نهى الله تعالى الكتاب عن الإباية، وأبى يأبى شاذ لم يجئ إلا قلى يقلى وأبى يأبى، ولا يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق، قال الزجّاج والقول في أبى أن الألف فيه أشبهت الهمزة فلذلك جاء مضارعه يفعل بفتح العين، وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله {ولا يأب} منسوخ بقوله {لا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة: 282] والكاف في قوله {كما علمه الله} متعلقة بقوله: {أن يكتب} المعنى كتباً كما علمه الله، هذا قول بعضهم، ويحتمل أن تكون {كما} متعلقة بما في قوله {ولا يأب} من المعنى أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل الله عليه، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاماً عند قوله: {أن يكتب}، ثم يكون قوله: {كما علمه الله} ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله {فليكتب}. قال القاضي أبو محمد: وأما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين، ولا وجوب الندب، بل له الامتناع إلا إن استأجره، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى: {وافعلوا الخير} [الحج: 77] وهو من باب عون الضائع. قوله عز وجل: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} أمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره، وإذا كتبت الوثيقة وأقرّ بها فهو كإملاء له. وأمره الله بالتقوى فيما يملي ونهي عن أن {يبخس} شيئاً من الحق، والبخس النقص بنوع من المخادعة والمدافعة، وهؤلاء الذين أمروا بالإملاء هم المالكون لأنفسهم إذا حضروا، ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمن. فقال {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً} وكون الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك، والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والسفه الخفة، ومنه قول الشاعر وهو ذو الرمة: [الطويل]. مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ *** أعالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِمِ وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي، وذلك هو وليه، ثم قال: {أو ضعيفاً} والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة، وهذا أيضاً قد يكون وليه أباً أو وصياً، الذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، و{وليه} وصيه أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر، و{وليه} وكيله، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأوْلى أنه ممن لا يستطيع، فهذه أصناف تتميز، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد، وربما اجتمعت كلها في شخص، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق، وقال بعض الناس: السفيه الصبي الصغير، وهذا خطأ، وقال قوم الضعيف هو الكبير الأحمق، وهذا قول الحسن، وجاء الفعل مضاعفاً في قوله: {أن يمل} لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة، والفك في هذا الفعل لغة قريش. و {بالعدل} معناه بالحق وقصد الصواب، وذهب الطبري إلى أن الضمير في {وليه} عائد على {الحق}، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس. قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالاً في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين؟ هذا شيء ليس في الشريعة، والقول ضعيف إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع {أن يمل} بمرضه إذا كان عاجزاً عن الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الإملاء أقر به، هذا معنى لم تعن الآية إليه، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض. {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} الاستشهاد: طلب الشهادة وعبر ببناء مبالغة في {شهيدين} دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه، فكأنها إشارة إلى العدالة: وقوله تعالى: {من رجالكم} نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً، وغلبوا لفظ الآية. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق، واسم كان الضمير الذي في قوله {يكونا}. والمعنى في قول الجمهور، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما، وقال قوم: بل المعنى فإن لم يوجد رجلان، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال، وهذا قول ضعيف، ولفظ الآية لا يعطيه بل لظاهر منه قول الجمهور، وقوله: {فرجل وامرأتان} مرتفع بأحد ثلاثة أشياء، إما أن تقدر فليستشهد رجل وامرأتان، وإما فليكن رجل وامرأتان ويصح أن تكون {يكونا} هذه التامة والناقصة، ولكن التامة أشبه، لأنه يقل الإضمار، وإما فرجل وامرأتان يشهدون، وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله: {أن تضل إحداهما} وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا «وامرأْتان» بهمز الألف ساكنة. قال ابن جني: لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس وإنما خففوا الهمزة فقرب من الساكن، ثم بالغوا في ذلك فصارت الهمزة ألفاً ساكنة كما قال الشاعر: [الطويل]. يقولون جهلاً لَيْسَ للشَّيخَ عَيِّلٌ *** لَعَمْري لَقَدْ أعْيَلْتَ وَأن رَقُوب يريد «وأنا»، ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي. وهي ساكنة وهي هذا نظر، ومنه قراءة ابن كثير «عن ساقيها» وقولهم يا ذو خاتم قال أبو الفتح: فإن قيل شبهت الهمزة بالألف في أنها ساوتها في الجهر والزيادة والبدل والحذف وقرب المخرج وفي الخفاء فقول مخشوب لا صنعة فيه، ولا يكاد يقنع بمثله، وقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} رفع في موضع الصفة لقوله عز وجل: {فرجل وامرأتان}. قال أبو علي: ولا دخل في هذه الصفة قوله: {شهيدين} اختلاف الإعراب. قال القاضي أبو محمد: وهذا حكم لفظي، وأما المعنى فالرضى شرط في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين. قال ابن بكير وغيره: قوله {ممن ترضون} مخاطبة للحكام. قال القاضي أبو محمد: وهذا غير نبيل، إنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض، وفي قوله: {ممن ترضون} دليل على أن في الشهود من لا يرضى، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم. وقرأ حمزة وحده: «إن تَضِل» بكسر الألف وفتح التاء وكسر الضاد «فتذَكَرُ» بفتح الذال ورفع الراء وهي قراءة الأعمش، وقراها الباقون «أن تضل» بفتح الألف «فتذكرَ» بنصب الراء. غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا الذال والكاف، وشددها الباقون، وقد تقدم القول فيما هو العامل في قوله: {أن تضل}، و{أن} مفعول من أجله والشهادة لم تقع لأن تضل إحداهما. وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر إحداهما إن ضلت الأخرى. قال سيبويه: وهذا كما تقول: أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ولما كانت النفوس مستشرقة إلى معرفة أسباب الحوادث، قدم في هذه العبارة ذكر سبب الأمر المقصود أن يخبر به، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها، وهذا من أنواع أبرع الفصاحة، إذ لو قال رجل لك: أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط، لقال السامع: ولم تدعم حائطاً قائماً؟ فيجب ذكر السبب فيقال: إذا مال. فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة. وقال أبو عبيد: معنى {تضل} تنسى. قال القاضي أبو محمد: والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالاً، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها، فأما قراءة حمزة فجعل {أن} الجزاء، والفاء في قوله {فتذكر} جواب الجزاء، وموضع الشرط وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور، وهما المرأتان، وارتفع «تذكر» كما ارتفع قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95] هذا قول سيبويه. قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وأما نصب قوله «فتذكرَ» على قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب ب {أن}، وتخفيف الكاف على قراءة أبي عمرو وابن كثير هو بمعنى تثقيله من الذكر، يقال: ذكرت وأذكرته تعديه بالتضعيف أو بالهمز، وروي عن أبي عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة أنهما قالا: معنى قوله: «فتذكر» بتخفيف الكاف أي تردها ذكراً في الشهادة، لأن شهادة امرأة نصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر، وهذا تأويل بعيد، غير فصيح، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر، وذكرت بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين، وأحدهما في الآية محذوف، تقديره فتذكر إحداهما الأخرى «الشهادة»، التي ضلت عنها، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر: «أن تُضَل» بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى، هكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني، وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة، تقول: أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما، وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد «فتذكِرُ» بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء، وتضمنت هذه الآية جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل، واختلف قول مالك في شهادتهما، فروى عنه ابن وهب أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين، أو فيما يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنها تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال، وخالف في ذلك أشهب وغيره، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال، ففيها قولان في المذهب. قوله عز وجل: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} قال قتادة والربيع وغيرهما: معنى الآية: إذا دعوا أن يشهدوا فيتقيد حق بشهادتهم، وفي هذا المعنى نزلت، لأنه كان يطوف الرجل في القوم الكثير يطلب من يشهد له فيتحرجون هم عن الشهادة فلا يقوم معه أحد، فنزلت الآية في ذلك، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية جمعت أمرين: لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها، وقاله ابن عباس، وقال مجاهد: معنى الآية، لا تأب إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك، وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد: فأما إذا دعيت لتشهد أولاً، فإن شئت فاذهب، وإن شئت فلا تذهب، وقاله لاحق بن حميد وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم. قال القاضي أبو محمد: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود وإلا من تعطل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة، وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء، {ولا تسأموا} معناه تملوا، و{صغيراً أو كبيراً} حالان من الضمير في {تكتبوه}، وقد الصغير اهتماماً به، وهذا النهي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم، فخيف عليهم أن يملوا الكتب و{أقسط} معناه أعدل، وهذا أفعل من الرباعي وفيه شذوذ، فانظر هل هو من قسُط بضم السين؟ كما تقول: «أكرم» من «كرُم» يقال: {أقسط} بمعنى عدل وقسط بمعنى جار، ومنه قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} [الجن: 15] ومن قدر قوله تعالى: {وأقوم للشهادة} بمعنى وأشد إقامة فذلك أيضاً أفعل من الرباعي، ومن قدرها من قام بمعنى اعتدل زال عن الشذوذ، {وأدنى} معناه أقرب، و{ترتابوا} معناه، تشكوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «يسأموا» و«يكتبوا» و«يرتابوا» كلها بالياء على الحكاية عن الغائب. قوله عز وجل: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه في كثير كالأملاك ونحوها. وقال السدي والضحاك: هذا فيما كان يداً بيد تأخذ وتعطي، وأن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، وقول تعالى: {تديرونها بينكم} يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين وقرأ عاصم وحده «تجارةً» نصباً، وقرأ الباقون «تجارةٌ» رفعاً، قال أبو علي وأشك في ابن عامر، وإذا أتت بمعنى حدث ووقع غنيت عن خبر، وإذا خلع منها معنى الحدوث لزمها الخبر المنصوب، فحجة من رفع تجارة إن كان بمعنى حدث ووقع، وأما من نصب فعلى خبر كان، والاسم مقدر تقديره عند أبي علي إما المبايعة التي دلت الآيات المتقدمة عليها، وإما {إلا أن تكون} التجارة {تجارة}، ويكون ذلك مثل قول الشاعر: [الطويل]. فدىً لبني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقتي *** إذا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا أي إذا كان اليوم يوماً. قال القاضي أبو محمد: هكذا أنشد أبي علي البيت، وكذلك أبو العباس المبرد، وأنشده الطبري: [الطويل] ولله قومي أيُّ قومٍ لحرّةٍ *** إذَا كَان يوماً ذا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا وأنشده سيبويه بالرفع إذا كان يوم ذو كواكب. وقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} قال الطبري معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره، واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ فقال الحسن والشعبي وغيرهما: ذلك علىلندب، وقال ابن عمرو والضحاك: ذلك على الوجوب، وكان ابن عمر يفعله في قليل الأشياء وكثيرها، وقاله عطاء ورجح ذلك الطبري. قال القاضي أبو محمد: والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحيي من العالم والرجل والكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان، ويبقى الأمر بالإشهاد ندباً لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا. وحكى المهدي عن قوم أنهم قالوا: {وأشهدوا إذا تبايعتم} منسوخ بقوله {فإن أمن} [البقرة: 283]، وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري. واختلف الناس في معنى قوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شيهد} فقال الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم. المعنى ولا يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه ولا يضار الشاهد بأن يزيد في الشهادة أو ينقص منها، وقال مثله ابن عباس ومجاهد وعطاء إلا أنهم قالوا: لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا. قال القاضي أبو محمد: ولفظ الضرر يعم هذا والقول الأول، والأصل في يضار على هذين القولين «يضارِر» بكسر الراء ثم وقع الإدغام وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك والسدي وطاوس وغيرهم: معنى الآية {ولا يضار كاتب ولا شهيد} بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة فيقول اكتب لي أو اشهد لي في وقت عذر أو شغل للكتب أو الشاهد فإذا اعتذرا بعذرهما حرج وآذاهما، وقال خالفت أمر الله ونحو هذا من القول، ولفظ المضارة إذا هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها، والكاتب والشهيد على القول الأول رفع بفعلهما وفي القول الثاني رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله، وأصل {يضار} على القول الثاني «يضارَر» بفتح الراء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون «ولا يضارَر» بالفك وتفح الراء الأولى، وهذا على معنى، أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة والشهادة، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر القراءة بهذا المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا، وحكى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى مكسورة، وحكى عنهم أيضاً فتحها، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة تميم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد «ولا يضارْ» بجزم الراء، قال أبو الفتح: تسكين الراء مع التشديد فيه نظر، ولكن طريقه أجرى الوصل مجرى الوقف، وقرأ عكرمة «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى «كاتباً ولا شهيداً» بالنصب أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر، ووجوه المضارة لا تنحصر، ورى مقسم عن عكرمة أنه قرأ «ولا يضارُ» بالإدغام وكسر الراء للالتقاء، وقرأ ابن محيصن «ولا يضارِ» برفع الراء مشددة، قال ابن مجاهد: ولا أدري ما هذه القراءة؟ قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف، وذلك على أن تجعل {لا} نفياً أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر: [الطويل] على الْحَكَم الْمَأْتِيّ يوماً إذَا انْقَضَى *** قَضيَّتَهُ أَنْ لاَ يَجُوزَ وَيَقْصِدُ فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع «ولا يضارُّ» على معنى وينبغي أن لا يضار، قال: وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي. قال القاضي أبو محمد: وهذا قريب من النظر الأول. وقوله تعالى: {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة الكبائر، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار، وفيه إبطال الحق، ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكتاب والمشاهد بأن يقال لهما: أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما إذا دعيا فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وفسقت الرطبة فكأن فاعل هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع، وقوله {بكم} تقديره فسوق حال بكم، وباقي الآية موعظة وتعديد نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره، وقيل إن معنى الآية الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه.
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضاً فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن. وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير، فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء، ولو ائتمنني لأديت، اذهبوا إليه بدرعي». وقد قال جمهور من العلماء الرهن في السفر ثابت في القرآن، وفي الحضر ثابت في الحديث. قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن، إلا أنه لم يمعن فيه النظر لفظ السفر في الآية، وإذا كان السفر في الآية مثالاً من الأعذار فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر، وذهب الضحاك ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو السفر، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك، وضعف الطبري قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته، وقوي قولهما في الائتمان، والصحيح ضعف القول في الفصلين بل يقع الائتمان في الحضر كثيراً ويحسن، وقرأ جمهور القراء «كاتباً» بمعنى رجل يكتب، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «كتاباً» بكسر الكاف وتخفيف التاء وألف بعدها وهو مصدر، قال مكي: وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام. قال القاضي أبو محمد: ومثله صاحب وصاحب، وقرأ بذلك مجاهد وأبو العالية وقالا: المعنى وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة، ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة، فنفي الكتاب يعمها، ونفي الكاتب أيضاً يقتضي نفي الكتاب فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «كُتاباً» بضم الكاف على جمع كاتب، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة ولم تجدوا كتاباً، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كاتباً»، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ «كتباً» وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كتباً». وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وجمهور من العلماء «فرهان»، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرُهُن» بضم الراء والهاء، وروي عنهما تخفيف الهاء. وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: رهن الشيء في كلام العرب معناه: دام واستمر، يقال أرهن لهم الشراب وغيره قال ابن سيده: ورهنه أي أدامه، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر: [السريع] اللحمُ والخبزُ لَهمْ راهِنٌ *** وقهوةٌ راووقُها ساكِبُ أي دائم قال أبو علي ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهين بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له، ويقال أرهن في السلعة إذا غالى فيها، حتى أخذها بكثير الثمن، ومنه قول الشاعر في وصف ناقة: [البسيط] يطوي ابن سلمى بها من راكب بُعُداً *** عيديةً أُرْهنَتْ فيها الدَّنَانِيرُ العيد بطن من مهرة، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة، ويقال في معنى الرهن الذي هو التوثقة من الحق: أرهنت إرهاناً فيما حكى بعضهم، وقال أبو علي يقال: أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهناً، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع، ونقل إلى التسمية، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء وكما تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا نصب المصدر، تقول: رهنت رهناً فذلك كما تقول رهنت ثوباً، لا كما تقول: رهنت الثوب رهناً وضربت ضرباً، قال أبو علي: وقد يقال في هذا المعنى أرهنت، وفعلت فيه أكثر، ومنه قول الشاعر: [الوافر] يراهِنُني ويُرْهِنُني بنيه *** وَأُرْهِنُه بنيَّ بِمَا أَقُولُ وقال الأعشى: [الكامل] حتّى يُقِيدَكَ مِنْ بنِيهِ رَهِينَةً *** نَعْشٌ ويُرْهِنَكَ السِّماكَ الفَرْقَدا فهذه رويت من رهن وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة: [المتقارب] ولمّا خَشِيتُ أَظافِرَهُمْ *** نَجَوْتُ وأَرْهنْتُهُمْ مَالِكا قال الزجّاج يقال في الرهن رهنت وأرهنت، وقاله ابن الأعرابي، ويقال رهنت لساني بكذا ولا يقال فيه أهنت. قال القاضي أبو محمد: فمن قرأ «فرِهَان» فهو جمع رَهْن، ك «كبْش» و«كِباش»، و«كَعْب» وكِعاب، ونَعْل ونِعَال، وَبَغْل وبِغَال، ومن قرأ «فُرُهُنٌ» بضم الراء والهاء فهو جمع رَهْن، ك «سقف وسقف، وأسد وأُسْد، إذ فَعْل وفُعُل يتقاربان في أحكامهما، ومن قرأ» فرهْن «بسكون الهاء فهو تخفيف رهن، وهي لغة في هذا الباب كله، كتف وفخذ وعضد وغير ذلك، قال أبو علي: وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء لكان قياسه أفعل ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في رسن وأرسان، فرهن يجمع على بناءين من أبنية الجموع وهما فعل وفعال، فمما جاء على» فُعْل «قول الأعشى: [الكامل] آليتُ لا أُعْطيهِ مِنْ أبنائِنا *** رَهْناً فَيُفْسِدهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدا قال الطبري: تأول قوم أن «رُهُناً» بضم الراء والهاء جمع رهان، فهو جمع جمع، وحكاه الزجّاج عن الفرّاء، ووجه أبو علي قياساً يقتضي أن يكون رهاناً جمع رهن بأن يقال يجمع فعل على فعال كما جمعوا فعالاً على فعائل في قول ذي الرمة: [الطويل] وَقَرَّبْنَ بالزرْقِ الْجَمَائِلَ بَعْدَما *** تَقَوَّبَ عَنْ غِرْبَانِ أوراكِها الْخَطَر ثم ضعف أبو علي هذا القياس وقال إن سيبويه لا يرى جمع الجمع مطرداً فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعاً. وقوله عز وجل: {مقبوضة} يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت. واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء قبض العدل قبض، وقال الحكم بن عتيبة وأبو الخطاب قتادة بن دعامة وغيرهما: ليس قبض العدل بقبض، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن. وقوله تعالى: {فإن آمن} الآية، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء، وقوله {فليُؤد} أمر بمعنى الوجوب بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير، وقوله {أمانته} مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، ويحتمل أن يريد بالأمانة نفس المصدر، كأنه قال: فليحفظ مروءته، فيجيء التقدير: فليؤد ذا أمانته، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبو بكر الذي أؤتمن برفع الألف ويشير بالضم إلى الهمزة، قال أحمد بن موسى وهذه الترجمة غلط، وقرأ الباقون بالذال مكسورة وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره، وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم، وهذا خطأ أيضاً لا يجوز، وصوّب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن موسى واحتج له، وقرأ ابن محيصن «الذي ايتمن» بياء ساكنة مكان الهمزة، وكذلك ما كان مثله. وقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة} نهي على الوجوب بعدة قرائن، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق، وقال ابن عباس على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سبباً لتخدم باطلاً ينطمس به الحق، و{آثم} معناه قد تعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة، وإعرابه أنه خبر «إن»، و{قلبه} فاعل ب {آثم}، ويجوز أن يكون ابتداء و{قلبه} فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إن، ويجوز أن يكون {قلبه} بدلاً على بدل البعض من الكل. وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه السلام، وقرأ ابن أبي عبلة «فإنه آثم قلبَه» بنصب الباء، قال مكي هو على التفسير ثم ضعفه من أجل أنه معرفة. وفي قوله تعالى: {والله بما تعملون عليم} توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد.
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} المعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك الله وطاعة، لأنه الموجد المخترع لا رب غيره، وعبر ب {ما} وإن كان ثم من يعقل لأن الغالب إنما هو جماد، ويقل من يعقل من حيث قلت أجناسه، إذ هي ثلاثة: ملائكة، وإنس، وجن، وأجناس الغير كثيرة. وقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} معناه أن الأمر سواء، لا تنفع فيه المواراة والكتم، بل يعلمه ويحاسب عليه، وقوله: {في أنفسكم} تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز. واختلف الناس في معنى هذه الآية، فقال ابن عباس وعكرمة والشعبي هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب، وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال لهم أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]، فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه الآية تلك، هذا معنى الحديث المروي، لأنه تطرق من جهات، واختلفت عباراته واستثبتت عبارة هؤلاء القائلين بلفظة النسخ في هذه النازلة. وقال سعيد بن مرجانة جئت عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية، {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} ثم قال: والله لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكن، ثم بكى حتى سالت دموعه، وسمع نشيجه، قال ابن مرجانة فقمت حتى جئت ابن عباس فأخبرته بما قال ابن عمر وبما فعل، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، لقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} الآية فنسخت الوسوسة، وثبت القول والفعل، وقال الطبري وقال آخرون هذه الآية محكمة غير منسوخة، والله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم فأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ثم أدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا المعنى، وقال مجاهد الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين، وقال الحسن الآية محكمة ليست بمنسوخة، قال الطبري وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها، ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا المعنى، ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبيّن الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها، ونص على حكمه أنه {لايكلف نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هو أمر غالب، وليست مما يكسب ولا يكتسب، وكان في هذا البيان فرحهم وكشف كربهم، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها. ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: «قولوا سمعنا وأطعنا» يجيء منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله عز وجل {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] فهذا لفظ الخبر ولكن معناه: التزموا هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ ذلك بعد ذلك. وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فيغفرْ»، و«ويعذبْ»، جزماً، وقرأ ابن عامر وعاصم «فيغفرُ» و«ويعذبُ» رفعاً، فوجه الجزم أنه أتبعه منا قبله ولم يقطعه، وهكذا تحسن المشاكلة في كلامهم، ووجه الرفع أنه قطعه من الأول، وقطعه على أحد وجهين، إما أن تجعل الفعل خبراً لمبتدأ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ، وإما أن تعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو حيوة «فيغفرَ» و«يعذبَ» بالنصب على إضمار «أن»، وهو معطوف على المعنى كما في قوله: {فيضاعفه} [البقرة: 11] وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف يغفر بغير فاء، وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، قال ابن جني هي على البدل من يحاسبكم فهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر: [الطويل] رويداً بني شيبانَ بعضَ وعيدِكُمْ *** تُلاقُوا غداً خيلي عَلى سَفَوَانِ تلاقوا جياداً لا تحيدُ عن الوغَى *** إذا ما غَدَتْ في المأزقِ المتدانِ فهذا على البدل، وكرر الشاعر الفعل لأن الفائدة فيما يليه من القول. وقوله تعالى: {ويعذب من يشاء} يعني من العصاة الذين ينفذ عليهم الوعيد، قال النقاش يغفر لمن يشاء، أي لمن ينزع عنه، {ويعذب من يشاء} أي من أقام عليه، وقال سفيان الثوري يغفر لمن يشاء العظيم ويعذب من يشاء على الصغير. قال القاضي أبو محمد: وتعلق بهذه قوم ممن قال بجواز تكليف ما لا يطاق، وقال إن الله قد كلفهم أمر الخواطر، وذلك مما لا يطاق. قال القاضي أبو محمد: وهذا غير بين، وإنما كان أمر الخواطر تأويلاً تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت تكليفاً إلا على الوجه ذكرنا من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك. ومسألة تكليف ما لا يطاق، نتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى. ولما ذكر المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى أعقب ذلك بذكر القدرة على جميع الأشياء، إذ ما ذكر جزء منها.
{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} سبب هذه الآية أنه لما نزلت {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية التي قبلها. وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ثم تقرر الأمر على ان {قالوا سمعنا وأطعنا}، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله عاذنا الله من نقمه، و{آمن} معناه صدق، و{الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم، و{بما أنزل إليه من ربه} هو القرآن وسائر ما أوحي إليه، من جملة ذلك هذه الآية التي تأولوها شديدة الحكم، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه قال: ويحق له أن يؤمن، وقرأ ابن مسعود «وآمن المؤمنون»، و{كل} لفظة تصلح للإحاطة، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك في كل كلام، ولما وردت هنا بعد قوله {والمؤمنون} دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر. والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه. والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عباداً الله، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم. والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو ما أخبر هو به، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «وكتبه» على الجمع، وقرؤوا في التحريم و«كتابه» على التوحيد، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم «وكتبه» على الجمع، وقرأ حمزة والكسائي «وكتابه» على التوحيد فيهما، وروى حفص عن عاصم ها هنا وفي التحريم «وكتبه» مثل أبي عمرو، وروى خارجة عن نافع مثل ذلك، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء، فمن جمع أراد جمع كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى، هذا قول بعضهم وقد وجهه أبو علي وهو كما قالوا: نسج اليمن، وقال أبو علي في صدر كلامه: أما الإفراد في قول من قرأ «وكتابه» فليس كما تفرد المصادر وإن أريد بها الكثير، كقوله تعالى: {وادعوا ثبوراً كثيراً} [الفرقان: 14] ونحو ذلك، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة، كقولهم: كثر الدينار والدرهم ونحو ذلك، فإن قلت هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة وهذه مضافة، قيل وقد جاء في المضاف ما يعني به الكثرة ففي التنزيل {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34] وفي الحديث منعت العراق درهمها وقفيزها، فهذا يراد به الكثير كما يراد بما فيه لام التعريف، ومنه قول ابن الرقاع: يَدَعُ الْحَيَّ بالعشيِّ رَعَاهَا *** وَهُم عَنْ رَغِيفِهِمْ أَغْنِيَاءُ ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة، وقرأت الجماعة «ورسُله» بضم السين، وكذلك «رسُلنا» و«رسُلكم» و«رسُلك» إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف «رسلنا» و«رسلكم»، وروي عنه في «رسلك» التثقيل والتخفيف، قال أبو علي من قرأ «على رسلك» بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد مثل عنق وطنب، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، وقرأ يحيى بن يعمر «وكتْبه ورسْله» بسكون التاء والسين، وقرأ ابن مسعود «وكتابه ولقائه ورسله»، وقرأ جمهور الناس «لا نفرق» بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، وقرأ سعيد بن جبير ويحيي بن يعمر وأبو زرعة بن عمر بن جرير ويعقوب «لا يفرق» بالياء، وهذا على لفظ {كل}، قال هارون وهي في حرف ابن مسعود «لا يفرقون»، ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. وقوله تعالى: {وقالوا سمعنا وأطعنا} مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر، والطاعة قبول الأوامر، و{غفرانك} مصدر كالكفران والخسران، ونصبه على جهة نصب المصادر، والعامل فيه فعل مقدر، قال الزجّاج تقديره اغفر غفرانك، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك، {وإليك المصير} إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال له جبريل يا محمد إن الله قد أجل الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل إلى آخر السورة.
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} خبر جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزوله الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر، وتأول من ينكر جواز تكليف ما لا يطاق هذه الآية بمعنى أنه لا يكلف ولا كلف وليس ذلك بنص في الآية ولا أيضاً يدفعه اللفظ، ولذلك ساغ الخلاف. وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] وقوله: {واتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم. على أنه ليس واقعاً الآن في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ولا يحرم ذلك شيئاً من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعاً به. قال القاضي أبو محمد: وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث. واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، وتكليف الشرع له الإيمان راتب، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1]، وقالت فرقة لم يقع قط، وقوله تعالى: {سيصلى ناراً} [المسد: 3] إنما معناه إن وافى على كفره. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما لا يطاق ينقسم أقساماً: فمنه المحال عقلاً كالجمع بين الضدين، ومنه المحال عادة، كرفع الإنسان جبلاً، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير، و{يكلف} يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره «عبادة» أو شيئاً، وقرأ ابن أبي عبلة «إلا وَسِعها» بفتح الواو وكسر السين، وهذا فيه تجوز لأنه مقلوب، وكان وجه اللفظ إلا وسعته، كما قال {وسع كرسيه السموات والأرض} [البقرة: 255] وكما قال {وسع كل شيء علماً} [طه: 98] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة في رأسي، وفمي في الحجر. وقوله تعالى: {لها ما كسبت} يريد من الحسنات، {وعليها ما اكتسبت} يريد من السيئات، قاله السدي وجماعة من المفسرين، لا خلاف في ذلك، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان. وجاءت العبارة في الحسنات ب {لها} من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات ب {عليها}، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول لي مال وعلي دين، وكما قال المتصدق باللقطة: اللهم عن فلان فإن أبى فلي وعليَّ، وكرر فعل الكسب فخالف والذي التصريف حسناً لنمط الكلام. كما قال {فمهل الكافرين أمهلهم رويداً} [الطلاق: 17] هذا وجه، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازاً لهذا المعنى، وقال المهدوي وغيره: وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد. قال القاضي أبو محمد: وهذا صحيح في نفسه، لكن من غير هذه الآية. وقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا} معناه قولوا في دعائكم. واختلف الناس في معنى قوله {نسينا أو أخطأنا} فذهب الطبري وغيره إلى أنه النسيان بمعنى الترك، أي إن تركنا شيئاً من طاعتك وأنه الخطأ المقصود. قالوا وأما النسيان الذي يغلب المرء والخطأ الذي هو عن اجتهاد فهو موضع عن المرء، فليس بمأمور في الدعاء بأن لا يؤاخذ به، وذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ غير المقصود، وهذا هو الصحيح عندي. قال قتادة في تفسير الآية بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها. وقال السدي نزلت هذه الآية فقالوها؛ قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد فعل الله ذلك يا محمد. قال القاضي أبو محمد: فظاهر قوليهما ما صححته، وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى: {يحاسبكم به الله} [البقرة: 284] أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه، وذلك في النسيان والخطأ، «والإصر» الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه، وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق، ولذلك أمر المؤمنون بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب. ومذهب الطبري والزجاج أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، فالنسيان عندهم المتروك من الطاعات. والخطأ هو المقصود من العصيان، والإصر هي العبادات الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وقرض أبدانهم ومعاقباتهم على معاصيهم في أبدانهم حسبما كان يكتب على أبوابهم وتحميلهم العهود الصعبة. وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز، كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان، ولغير ذلك من الأمر تستصعبه وإن كنت في الحقيقة تطيقه أو يكون ذلك {ما لا طاقة لنا به} من حيث هو مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره. وأما لفظة «أخطأ» فقد تجيء في القصد ومع الاجتهاد، قال قتادة: الإصر العهد والميثاق الغليظ. وقاله مجاهد وابن عباس والسدي وابن جريج والربيع وابن زيد وقال عطاء: الإصر المسخ قردة وخنازير. وقال ابن زيد أيضاً: الإصر الذنب لا كفارة فيه ولا توبة منه. وقال مالك رحمه الله: الإصر: الأمر الغليظ الصعب. قال القاضي أبو محمد: والإصرة في اللغة الأمر الرابط من ذمام أوقرابة أو عهد ونحوه، فهذه العبارات كلها تنحو نحوه، والإصار الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، والقد يضم عضدي الرجل يقال أصر يأصر والإصر بكسر الهمزة من ذلك، وفي هذا نظر. وروي عن عاصم أنه قرأ أُصراً بضم الهمزة، ولا خلاف أن الذين من قبلنا يراد به اليهود. قال الضحاك: والنصارى، وأما عبارات المفسرين في قوله: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فقال قتادة لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا. وقال الضحاك: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق، وقال نحوه ابن زيد، وقال ابن جريج: لا تمسخنا قردة وخنازير، وقال سلام بن سابور: الذي لا طاقة لنا به الغلمة، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وعن مكحول وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك في غلمة ليس لها عدة، وقال السدي: هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله: {واعف عنا} أي فيما واقعناه وانكشف {واغفر لنا} أي استر علينا ما علمت منا {وارحمنا} أي تفضل مبتدئاً برحمة منك لنا. قال القاضي أبو محمد: فهي مناح للدعاء متباينة وإن كان الغرض المراد بكل واحد منها واحداً وهو دخول الجنة و{أنت مولانا} مدح في ضمنه تقرب إليه وشكر على نعمه، ومولى هو من ولي فهو مفعل أي موضع الولاية، ثم ختمت الدعوة بطلب النصر على الكافرين الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع الطاعات. وروي أن جبريل عليه السلام أتى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: {قل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، فقالها فقال جبريل قد فعل، فقال: قل كذا وكذا فيقولها فيقول جبريل: قد فعل إلى آخر السورة، وتظاهرت بهذه المعنى أحاديث، وروي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان ذلك فكمال، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن، وروى أبو مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليل كفتاه،» يعني من قيام الليل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أظن أحداً عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن أحد قبلي».
|